يُوصَف عصر محمد علي بعصر النهضة الذي تبلورت فيه الأمة المصرية ودولتها المركزية في العصر الحديث. وغالباً ما تتأسس تلك الرؤية على أرضية نظرة جامعة لمصر في عهد محمد علي، دون تحليل عميق لديناميات التطور الداخلي للمجتمع المصري والقوى الفاعلة فيه، بل تتأسس حول مجموعة من الخطوط العريضة تتمثل في تكوين الجيش المصري وعملياته خارج مصر، وفي الصناعات التي أنشأها الباشا، وفي البعثات التعليمية التي أرسلها الباشا إلى الخارج من أجل تأسيس روافع تلك النهضة. غير أن نظرة فاحصة لتلك الأسس قد تساهم في تصحيح التصور الشائع عن حكم محمد علي، وهو تصور لطالما اقترن بالحنين لعهد القوة والنفوذ الإقليمي تحت عنوان: تأسيس الوطنية المصرية.
من المعلوم أن محمد علي قد استولى على حكم مصر عام 1805 في أعقاب فترة من الفوضى مثَّلت الحملة الفرنسية ذروتها، وحيث كانت مصر ممزقة بين زعماء المماليك والنفوذ العثماني الذي كان يتفسخ بمعدلات متسارعة في هذه الأثناء. ولما كان الأعيان ومشايخ الأزهر المصريون غير قادرين على الحكم لعدم تبلورهم كطبقة قادرة على مجابهة المماليك والعثمانيين، فإن حكم البلاد قد آل إلى خسرو باشا، ثم خورشيد باشا، ثم محمد علي الذي لم يكن سوى عسكري ألباني ضمن قوات العثمانيين العاملة في مصر منذ أواخر عهد الحملة الفرنسية.
لم يكن الباشا مصرياً إذاً، كان ألبانياً ذا قدرات شخصية متميزة وإمكانيات تآمرية لا يمكن إنكارها، وكان طامحاً إلى تأسيس قاعدة شخصية له مستغلاً تردي وضع الإمبراطورية العثمانية والنزاع الفرنسي الإنجليزي، بالإضافة إلى أن القوى المحلية القادرة على منافسته كانت على درجة من الضعف والتفكك مهدت له إمكانية السير بمشروعه الشخصي إلى الأمام.
إذاً ينتفي الدافع الوطني عن محمد علي ليحل محله الدافع الشخصي، غير أن هذا الدافع اكتسى عبر حكم الباشا وفي كل مرحلة بما كان يوحي دوماً بأنه يؤسس مشروعاً وطنياً على الطراز الرأسمالي الأوروبي. في مواجهة حالة التفكك في مصر ولأجل تحويلها إلى قوة ذات وزن إقليمي ودولي أطلق الباشا مشروع تأسيس جيش قوي، عمد في البداية إلى استبعاد الفلاحين المصريين منه لسببين: الأول حاجته لكل الأيدي الفلاحية للعمل في الزراعة من أجل إطعام الجيش المزمع بناؤه، والثاني هو أنه كان يكن احتقاراً للمصريين وخوفاً منهم في آنٍ معاً؛ لذا فإنه لم يعترف للفلاحين المصريين بقدرتهم على القتال المحترف إلا بعد تأسيس الجيش بسنوات طويلة، وبعد أن خاض حملات مظفرة، بينما كان خوفه يعود لإدراكه أن الفلاح المصري الذي كان محروماً من حمل السلاح لفترات تاريخية طويلة، والذي خضع منذ قرون لحكم أجنبي، هذا الفلاح قد يشعر بقوته التي قد تدفعه لحالة تمرد جماعي. أثبت خوف الباشا صحته بعد ذلك بسنوات طوال حين قامت الثورة العرابية بشكل رئيسي من قلب الجيش.
غير أن الباشا بعد أن فشل في جلب عدد كافٍ من العبيد من السودان ليخلق منهم جيشاً محترفاً، وبعد أن عانى ضباطه الألبان في قيظ السودان أثناء حملات الاسترقاق تلك، وبعد أن مات أحد أبنائه وهو في قلب حملة من حملات التجنيد في السودان، اضطر إلى تجنيد الفلاحين المصريين بأعداد واسعة في جيشه حتى صاروا القوام الرئيسي للجيش، غير أن الباشا وبدافع من مخاوفه ومن احتقاره للمصريين وضع باستمرار على رأس الجيش قيادة أجنبية، خليطاً من الألبان والعثمانيين، بل ضابطاً فرنسياً هو سليمان باشا الفرنساوي نائب قائد الجيش، الذي لم يكن سوى إبراهيم ابن محمد علي، وأغلق سبل الترقي أمام الضباط المصريين الذين اضطر لقبول وجودهم كي يكونوا حلقة وصل بين الجنود المصريين وتلك القيادة الأجنبية.
وقد كان الباشا مضطراً لتجنيد الفلاحين بالقوة؛ لأنه فشل في إضفاء دوافع وطنية على مشروعه الذي كان شخصياً وعثمانياً في آنٍ، ففي أشد لحظات الخلاف مع العثمانيين رفض الباشا رفع مطلب انفصال مصر عن الخلافة العثمانية؛ لأنها كانت ضرورة لبقائه، فلم تكن لمحمد علي شرعية للبقاء سوى شرعية القوة التي تحوز الرضا العثماني مع ما كان للخلافة من تأثير ديني على شعوب الأقاليم. كان ولاء الباشا للعثمانيين شديداً لدرجة أنه امتثل لأوامر الخلافة ورفض الإذن لإبراهيم بسحب الأسطول المصري في أثناء الحملة اليونانية، ما أدى لتدميره في معركة نافارين البحرية في 1827.
كان افتقاد الشرعية الوطنية محرك حملات التجنيد العنيفة والإجبارية، لم يكن المصريون يشعرون وهم يقاتلون في الحجاز واليونان وكريت أنهم يخوضون حروبهم هم بل حروب الباشا والدولة العثمانية التي لطالما مقتوها. في مقابل هذا الشكل من التجنيد ابتدع المصريون مقاومتهم الفردية للتهرب من الالتحاق بجيش الباشا، إحداث عاهات مؤقتة أو دائمة، الهروب من القرى، الفرار من الجيش بعد الالتحاق به، وفي مقابل هذا كان الباشا يشدد قبضته على المتمردين ويسن حزماً من القوانين الرادعة للتهرب من التجنيد ومن يعاون المتهربين.
وبينما كان الجيش هو القوة الضاربة لمشروع محمد علي في مرحلة صعوده، فقد أعاد الباشا بناء الدولة المصرية لتخدم طموحاته، فتأسست الدواوين والمستشفيات التي تؤمِّن عمل الجيش، وخرجت البعثات إلى أوروبا لتنقل العلوم لأجل تطوير صناعات تخدم النشاط الحربي، وقد حافظ محمد علي في كل هذا على استبعاد العنصر المصري حيثما أمكن وتحجيم الاعتماد عليه إذا عجزت النخبة الأجنبية عن القيام بالمطلوب لصغر عددها، بل إنه عارض بشدة فكرة التوسع في تعليم المصريين، وحصره في حدود خلق نخبة تتولى مهمة التطوير والتحديث دون أن يسمح لعموم المصريين بالحصول على فرصة لدخول المدارس، خشية أن التعليم قد يخلق قطاعاً من المثقفين يمثل ضغطاً على حكمه ويمكن المصريين من تكوين تصور عن تخليص البلاد من الحكم الأجنبي.
لا يمكن العثور على دليل لهدف محمد علي من مشروعه إلا في أنه حين أجمعت أوروبا مع العثمانيين على خطر صعود دولة مصرية قوية، استسلم محمد علي لرغباتهم في معاهدة لندن مقابل ضمان استمرار حكم مصر له ولأبنائه من بعده، وكان المقابل هو تخفيض عدد الجيش، وتخلي محمد علي عن سياسة الاحتكار في التجارة والصناعة، وفتح البلاد للبضائع الأجنبية، والتخلي أيضاً عن سوريا التي غزاها في بدايات ثلاثينيات القرن التاسع عشر لا من منظور واعٍ للأمن القومي المصري كما يقول البعض، بل لأن سوريا كانت ولاية غنية، وكان في أشد الاحتياج لأخشاب غاباتها لإعادة بناء أسطوله الذي دُمِّر في نافارين، أي إن محمد علي قد بنى قوة إقليمية ضخمة قايضها بتوريث مصر لأسرته.
غير أنه وفي أثناء بناء تلك القوة وممارستها لم يكن يتعامل مع الشعب المصري إلا كأداة في مشروعه الشخصي، وقد كان المصريون خاضعين عبر قرون لأشكال من الاضطهاد والاستغلال الشديد، لكن ما فعله محمد علي أنه بخلق الدولة المركزية، وباحتكار الزراعة والتجارة والصناعة، قد وضع المصريين تحت طائلة شروط قهر واحدة، فلم تعد مصر ممزقة بين أمراء المماليك، بل صار الشعب المصري يواجه طرفاً واحداً تمركزت فيه كل القوة والجبروت، وكان ما يجري في الجيش هو تكثيف لكل هذا الذي يجري في المجتمع، بمعنى أنه في الجيش واجه المصريون الهيمنة الأجنبية، والصدع الطبقي الهائل الذي تمثل في مرتبات ممتازة لكل الأجانب ومرتبات شديدة التدني للضباط والجنود المصريين. فيما مثَّل حرمانهم من الترقي فرصة لنمو شعور جمعي بالمهانة الوطنية، كان إخضاع المصريين لنفس ظروف القهر والاستغلال في داخل جيش الباشا وفي حقول الباشا يخلق فيما بينهم تضامناً كهيئة وطنية في مواجهة الأجانب. بينما كان محمد علي ينزع عن المصريين آدميتهم وكرامتهم، كانوا في خضم الانتصارات التي حققوها بدمائهم في حملات الحجاز والشام وجولات القتال ضد جلاديهم العثمانيين يشعرون لأول مرة منذ زمن طويل بقدرتهم على الفعل، شعوراً بالاعتزاز بالنفس داخل الجنود والضباط المصريين كان محمد علي وكبار رجالاته على الدوام يحاولون كسره والاستهانة به.
لقد تشكلت الوطنية المصرية التي هي شعور جمعي بالانتماء وبالتضامن، تشكلت أنويتها الأولى من حيث حاول محمد علي وأدها لشعوره الدائم بخطرها. فحين حرم المصريين من الترقي في الجيش خلق فيهم بإلحاح الرغبة في الترقي والشعور بمهانة التمييز ضدهم، وحين أسس الدولة المركزية كأداة لضبط وتسيير المجتمع، خلق هدفاً واضحاً للتصويب عليه، هدفاً لم يكن متوفراً في حقبة المماليك المفككة. وحين ابتعث نخبة لنقل العلوم من الخارج، كان امتداد تلك النخبة هو من حمل اللواء الثقافي للثورة العرابية بعد وفاة محمد علي بما يقارب 30 عاماً، مثلما خرجت الثورة العرابية نفسها بقيادة الضباط الفلاحين المصريين من قلب جيش محمد علي الذي تحول بعد معاهدة لندن لمجرد قوة لحفظ عرش محمد علي وعرش أبنائه من بعده، بالضبط كما سقط عرش الأسرة كله في 23 يوليو 1952 بأيدي ضباط من جيش محمد علي نفسه.
لم تنشأ الوطنية المصرية إذن كقوة دافعة لمشروع محمد علي باشا، بل نشأت بالضبط نقيضاً لهذا المشروع بما مثله من سيطرة أجنبية واحتكار اقتصادي وتمييز متواصل ضد المصريين، تمييز واجهوه بالتعرف إلى هويتهم والبحث عن تكوين تلك الهوية، بحث كان عفوياً في البداية، رد فعل غريزي إزاء تهديد قهري دائم مثَّله الباشا وحكمه، تهديد بالخطف من الحقل، تهديد بالزج في معارك السلطنة العثمانية، لكنه قد تبلور وعياً بالذات الوطنية يتطور باطراد مع انكفاء مشروع الأسرة وتقليم أظافره لتشكل حالة كيفية جديدة في عهد توفيق، ساهم في تفجيرها مأزق اقتصادي غير مسبوق.
لا نعني بكل هذا أن الباشا لم ينجز شيئاً، لكن نقول إن ما أرساه وأنجزه لم يكن تعبيراً عن مطامح وطنية مصرية، بل كان عداؤه للمصريين جوهرياً، غير أن مشروعه الفردي كان يحتم عليه الخروج بمصر من التخلف وتحسين قواها الإنتاجية، وهو حين اضطر إلى هذا كان في نفس الوقت دون إدراك منه أو رغبة يطلق مسار تبلور وطنية مصرية نقيضة لمشروعه الأسري، لأن تلك النقلة في القوى الإنتاجية قد أنتجت عبر جدلية اجتماعية وعياً وطنياً بالذات المصرية، فإذا كان مشروع محمد علي هو مشروع حكم الأسرة، فإن الوطنية المصرية كانت نقيضه الذي وُلد معه، أو ناتجاً جانبياً له دمره في النهاية.